#أنا_مش_عارفني..

عن افتعال الفن؛ الذي تجاوز الفن..

عدتُ في تلك الليلةِ مُتخمًا بالأفكارِ السوداء، وأنا كلمّا اتخمتني الأفكارُ صرخت معدتي تُطالبُ بالمعاملة بالمثل. ذهبتُ إلى الثلاجةِ ففتحتُها ورحتُ أبحثُ عن شيءٍ أدفنُ فيه كآبتي. لمحت عينيّ رنجةً مختبئةً وراء البصل الأخضر وثمرتي طماطم، فمددتُ لهم أصابعًا مرتعشةً من الانفعالِ. أخرجتُ الكنز الصغير ووقفتُ أنظر له في جشع. هذه وليمةٌ صغيرة تناسب الـ “مود” تمامًا. ولضبط الـ “مود” أكثر، أخرجتُ هاتفي وشغّلتُ الـ يوتيوب ميوزك، لثقتي في اختياراته التي تناسبني دومًا.

بدأتُ في تشويح الرنجة على النار فراح زيتُها يتساقط في إغراء. انتهت الأغنية الأولى مع نضج الرنجة، وضعتُها في الطبق، ثم وجدتُ الحكمدار يصدح “أنا”. انتبهتُ وابتسمتُ في صمت، لو كانت خوارزمية اليوتيوب تعيش معي في تلك اللحظة، لما اختارت لي أغنيةً أفضل.

أكمل عباسط “أنا، أنا، أنا، آآآنا، أنا”.

رحتُ أقطّع البصل، فراحت الدموعُ تنزل من عينيّ، والحكمدار يصدح ” تعبت من المفاجأة ونزلت دمعتي”، ولسببٍ لا أعرفهُ وجدّتني أضحكُ في سُخريّة.

تثير هذه الأغنية في نفسي مشاعرًا متناقضة منذ أول مرّةٍ سمعتُها فيها وحتى الآن. فالأغنية في كلماتها وفي ظاهرها تبدو مفتعلةً بشدّة، بل لربما تبدو سطحية كذلك. هي تناقض كلّ ما نعرفهُ عن غناء الـ” رجل” بشكلٍ عام. لا يوجد رجل يغني لـ “مرايته”، لم نعتد أن يغني رجل قائلًا ” قوليلي إية يا مرايتي، قوليلي إية حكايتي” اعتدنا على صورة المرأة التي تغنّي لمرآتها، وترتبط الصورة في أذهاننا بسنووايت والملكة الشريرة التي تحملُ عفريتًا في مرآتها يؤكّد لها أنها أجمل امرأةٍ في الدنيا، كلّما طعن بها العمرُ أكثر، وفقدت ثقتها في نفسها. أما أن يُغني رجل لمرآتهِ، فهذا ما لم نسمع بهِ من قبل. بل ربما نظنُّ أن كلمة “مرايتي” جاءت لضبط القافية مع “حكايتي، ونهايتي” في باقي المقطع. أضف لهذا: من هذا الـ “رجل” الذي يعترف بمنتهي البساطة أن دموعه تنزل، مثله في هذا مثل الحريم؟ كل هذا ربما يثير السخرية في نفوسِنا، ويجعلنا ننظر إلى الأغنية بشكل سطحي ونستخفّ بها.

الغريب أن هذا كان شعوري في بداية الأمر حين استمعتُ لها أول مرّة. كان يقول “أنا مش عارفني، أنا تهت منّي، أنا مش أنا”. هذه قضيّة وجوديّة غارقة في الفلسفة، كيف تُغنّى بهذه الطريقة الشعبية والكلمات العاميّة، كيف تُغنّى بهذه الطريقة الفجّة؟؟ ربما لا نعرف أغنية مشابهةً سوى أغنية “جئتُ لا أعرفُ من أين” لعبد الحليم حافظ، والمأخوذة من قصيدة “الطلاسم” لشاعر عربي ثقيل وعميق هو إيليا أبو ماضي، وبتلحين موسيقار من العيار الثقيل هو عبد الوهاب، وموضوعة في سياق درامي لفيلم “الخطايا”. وبرغم كل هذا لا تتحدث الأغنية عن أزمة الهوية صراحة، وإنما عن أسئلة المنشأ والمصير العاديّة، جئنا من أين وذاهبين لأين؟ فمن إذن هذا المغنّي الشعبي الذي يأخذ هذه المعاني الضخمة ويضعها في أغنية شعبية فيقول ” لا دي ملامحي، ولا شكلي شكلي، ولا ده أنا”؟ ما هذا السُخف؟ ربما لهذا شعرتُ باستخفاف الأغنية أول مرّة، لكنّي برغمِ هذا أخذني أداء الحكمدار، وبرغم استخفافي الظاهر من الأغنية، شعرتُ بأنّها تُحرّك شيئًا في أعماقي، وأن الأغنية بشكلٍ ما تُعبِّرُ عنّي.

تجاهلتُ الأمر في البداية، وحاولتُ أن أتناساه، لكنّي في كلّ مرة أسمعها تُصيبني ذات المشاعر المتناقضة. أشعرُ بالسخرية من الأغنية وأغنّي مع الحكمدار بافتعالٍ وأنا أضحك استخفافًا، ولكني في داخلي، وبدون اعترافٍ حقيقيّ لهذا أمام نفسي، أشعرُ بتمزِّقهِ، أشعر بحُرقتهِ، أشعرُ بصدقهِ وهو يصرخ “أنا مش عارفني” وبرغم سخريتي، أشعرُ أنني أيضًا “مش عارفني”.

جلستُ إلى طبق الرنجة الغارق في الطحينة والزيت، ورحتُ أفكرُ في السبب.

ربما لم يكن الحكمدار فنّانًا في حقيقة الأمر. ربما كان لديهِ إحساس فنان، ربما لديهِ الرغبة في أن يكون فنّانًا، ربما لديهِ صوتُ فنان. لكن لا الإحساس، ولا الرغبة ولا الصوت هو ما يصنع الفنان. لقد علّمونا طويلًا أن الفنّ يحتاج إلى تركيبة سحريّة، لا يفهم كُنهها أحد، اسمُها الموهبة. يُضاف إليها بهارات سحريّة تمنحُها نكهةً لا تقاوم، اسمها الدراسة، ثم توضع الخلطة في تحبيشةٍ تُسوّى على نار هادئة اسمها الخبرة. وقتها فقط يمكن أن تُطلق على نفسك هذا الاسم الذي تقشعرُ له الأبدان “فنان”، ويمكنك أن تُطلق على أي “هري” تنتجه اسم “الفنّ”.

لم يكن الحكمدار فنّانًا بهذا المعني.

في فيلم “أنت اللي هتغنّي يا منعم” يأتي الشاب الفقير ذو الصوت الجميل، فيبيع أهل حارته اللي وراهم واللي قدّامهم، حتى يدخل مدرسة الكونسرفتوار، فيتعلّم ويصير فنان “بجد”. قبل هذا لا يمكنه أن يكون فنّانًا.

عباسط لم يدخل الكونسرفتوار، ربما لم يسمع به من قبل في حياتهِ.

أذكرُ أنني عرفتُ بهِ أول مرّة من خلال برنامج (حوار صريح جدًا) حين استضافتُه مُنى الحسيني وراحت تسخر منه وتسأله: “هل لديك وسامة عبد الحليم؟” فيقول لها: “آه طبعًا، عندي، والجمهور يُحكم”. لم يكن عباسط يعرف معني كلمة “وسامة” ولربما ظنّها صفةً في الصوت، أو طريقةً في الأداء، ولهذا أكّد أن، “عبد الحليم بصراحة راجل فنّان”. لم يفهم عباسط أن الوسامة لا تعني شعرًا ممشّطًا بالزيت، وبدانةً مفرطة، وكرشًا عملاق، وأن شروط المطرب الرومانسي أن يكون وسيمًا رفيعًا رقيعًا ذو عينين حالمتين كي “يعجب” البنات فيهيمون في صورته. لم يفهم عباسط العلاقة بين الشكل أو هيئة الجسد وبين الفن، ولهذا أجاب بـ” فهلوة” أن “الجمهور يحكم.”

كان الحكمدار واثقًا في نفسهِ، مقتنعًا تمام الاقتناع بما يُقدّم، مستمدًا قناعته ونجاحه من دائرتِه الشعبية التي يُعجبها ما يقدّم وتطلبه في أفراحِها وتستمع إلى أغانيه، برغم أنه لم يتخرّج في الكونسرفتوار، بل ولا يفك الخط من الأساس، ولا يعرف شيئًا عن علم الموسيقى، ولا تاريخ الفن وبرغم هذا أعجب فئات واسعة من الناس. فئات من التي تظنُّ أن من حقّها أن تتساءل بدورها عن هويّتها من دون أن تعرف هيدجر ولا راسل. اقتنع عباسط أنّه فنان، صدّق أنّه فنان، افتعل الفنّ.. حرفيًا، ولكن دون أن يشعر.

وربما هذا هو ما أضحكني أول مرّةٍ حين سمعت تلك الأغنية. أنها افتعال صارخ لهذا الموقف من الحياة. خاصّة الجزء الذي ينغّم فيه صوته فيقول ” ممممممم”. لو أنّ فنانًا كوميديًا أدّى هذه الأغنية بنفس الطريقة لسقط الناسُ على أقفيتهم من الضحك، لكن عباسط لم يكن فنانًا كوميديًا، ولم يغني هذه الأغنية قاصدًا الكوميديا، بل كان مؤمنًا بما يقول، كان يظنُّ أنّ من حقّه أن يعبّر عن دواخله وأحاسيسه بهذه الطريقة من دون أن يعرف أن هناك “أناسًا أخرى” تستأثر لنفسِها بهذه القضيّة، باعتبارها قضية الفلاسفة فقط. كان عباسط صادقًا في انفعالهِ فقط، كان هذا كل ما يملكه، وبطريقةٍ ما، سحريّة، انتقل إلينا هذا الإحساس. وصلنا أن الأمر ليس مُزحة، وأن الأمرِ ليس حِكرًا على أحدٍ دون أحد، وأنّه لا يدّعي الافتعال في هذه الكلمات، ولا في هذا الإحساس الذي يحسّه، ولا في هذا الموقف من الحياة الذي يشعر بهِ، لتسقط الحواجز في أنفسنا.. ثم نكتشف في أعماقِنا أننا فقط لا نريد أن نشعر به. أننا نريد أن نتوارى من هذا الشعور؛ أننا لا نعرف أنفسنا، وراء السخرية من هذا الشعور، لندّعي كذبًا أننا نعرف أنفسنا، برغم أننا في حقيقة الأمر لا نعرف أنفسنا. لا نعرف أننا تعلّمنا ألا نعترف بدموعِنا، وأن نترك المرآة حِكرًا للنساء فيكلمون أنفسهم فيها، وأن نترك أسئلة الهوية للفلاسفةِ فقط، كي يحددون إجاباتنا عنها.

لهذا يُصيبُنا عباسط بالدهشة، بالتمزُّق، بالتساؤل عمّا إن كنّا حقيقيون. هل نحنُ نعرف أننا حقيقيون ونعرف أنفسنا، لكننا ندّعي أننا مُرهفي الإحساس، فنتساءل برقاعةٍ عن هُويّتنا لنُمثّل الرومانسية، أو نتخذ موقفًا فلسفيًا واعيًا يدّعي فقدان الوعي، فنبدو لأنفسِنا كائناتٍ أرقى مما تبدو عليهِ، أم أننا في حقيقة الأمر ضائعون في الحياة، لا نعرف من نكون، ونتخفّى من تلك الحقيقة بادّعاءِ افتعالِها؟

يضعنا الحكمدار أمام أنفُسِنا قِسرًا، يضعنا أمام مرايانا. ويسألنا: هل نعرّف الأشخاص الذين يواجهوننا على الناحية الأخرى، أم تُطالعُنا وجوهٌ لا نعرفُها، ولا نعرف حكاياها !

Leave a comment